فتحت صندوق رسائلي الوهمية و يا ليتني لم أفتحه في ذلك اليوم ، فتفاجأت بتحية من احداهن تدعى ندى . بينما كنا نتعارف حسب الأعراف الكلاسيكية ، كنت أبحر في حسابها و الدهشة تعلوني. عجبا أمضيت سنوات في محيط البروفايلات دون أن أصاب بهذا الدوار فلم يا ترى أحس هذا الاحساس الغريب؟ لعله القدر ، الذي سحب مني صديقتي و أختي من الرضاعة من ثدي أحمد مطر ، سيهديني صديقة جديدة تمحي أحزاني و تضع حدا لأشجاني. غامضة، كلما زادت معرفتي بها، كلما تأكدت على أني أجهلها أكثر و طبعا زاد تعلقي بها أكثر فأكثر .و بما أنها فريدة ، أبت الا أن تتميز عن نظيراتها من الفتيات و تمنحني شرف التعرف على اسمها الحقيقي، و منذ البداية صارحتني على أن اسم " ندى" هو اسم مستعار.أنذاك تحول مركز الجاذبية من مركز الأرض الى عقلي ، فكل الأفكار و الكلمات بدأت تتعلق به و تأبى السقوط منه ! فكرت كثيرا ، تساءلت كثيرا ، من تكون هته الشقية ؟ و ماذا تريد بحق السماء ؟ هل هي حقا منقذتي من ظلمات الوحدة ؟ أم نحلة كسابقاتها يلتقطن رحيق كلامي في البداية ، ثم تهربن مسرعات ؟ لا أعلم و لا يمكنني أن أعلم ، فنظيرتي هته المرة غامضة كالمحيط و الابحار فيها سيشكل خطرا لا محالة. لكن بعزيمة الرجال ، قررت التحدي و الغوص في أعماقها مهما كلف الثمن.
عنادي، لم يزدها الا اصرارا. فصديقتي الجديدة الفريدة ، كانت نادرا ما تفتح حسابها ، تأتي فجأة ثم تختفي في لمح البصر . بينما أستغل كل ثانية معها لألتقط كل صغيرة و كبيرة عنها بين بقايا الأسلاك الايليكترونية.أتذكر جيدا كيف كانت تحدثني عن معركتها السابقة في حرب "السي ان سي "، و عن فشلها في التغلب عليه. أتذكر جيدا كيف كنت أزرع بذور الأمل في بستانها و أؤكد لها على أنها ستحصل على مرتبة مشرفة في هته السنة و ستتمكن من ولوج مدرسة مهندسين تليق بمقامها. أتذكر جيدا كل حلوة و مرة معها ، فهل هي تتذكر ذلك يا ترى ؟ لا أدريالمهم، مضت الأيام ، و اجتازت صديقتنا المباراة بنجاح . و بمناسبة النجاح أردت أن أنجح أيضا في اختباري في التعرف عليها . فأرسلت لها عبر البريد الخاص رقم هاتفي و رسالة كالتالي " مرحبا ، سأكون حاضرا يوم تسجيل الطلبة ، تفضلي رقم هاتفي كالتالي ...... ان أردت ملاقاتي فما عليك سوى اخباري عبر رسالة قصيرة ".
حزمت حقائبي و توجهت الى مدينة الدار البيضاء، و كلي أمل في ملاقاتها. ففي ذلك اليوم وقعت عيني على عدة أصدقاء ، و ارتمت كلماتي و تحياتي على عشرات الناس لكن حسرتي و هاتفي لم يبرحا مكانهما ، و ظلا في وضعية سكون. عدت في المساء حاملا معي خيبة أمل كبيرة، كنت أود التعرف عليها عن كثب ، لم أكن لأسألها لا عن اسمها و لا عن النسب. كل ما أردته مشاهدة وجهها و الارتواء بكلمة من جوفها و تحية لقاء ان لم تكن تحية وداع للأبد. فتحت شاشتي السحرية، و توقعت على أن أجد في نافذة حديثها طلب الصفح عن فعلتها هته، لكن لا شيء من ذلك تحقق. لقد غابت كما تغيب الشمس ، مع فارق بسيط هي لم و لن تبزغ أبدا. صام كل طرف منا فيها عن الحديث لبضع أيام، الى أن وضعت حدا لهته النكسة. صديقتنا تذكرتني أخيرا و أرسلت لي في الموقع الأزرق. كانت دهشتي كبيرة و لم أستطع فتح الرسالة في البداية ، لكن رابط صداقتها الوهمي جعلني أضغط و أكتشف مضمون رسالتها. " وسسسسسسسيم رأيتك ....." مع بضع أيقونات تدل على فرحتها. يا الهي من هته بحق السماء ؟ أنا في قمة الشجن لأنني لم أظفر بلقائها و هي في قمة الفرحة ؟ بعد ذلك أضافت بضع جمل مفادها على أن حياءها و حضور أختها من جهة ، و كوني كنت أتحدث مع فتاة أخرى من جهة أخرى كانا السبب الرئيسي في عدم حديثها معي. كان ردي قصيرا، لكنه يحمل دلالات كثيرة و غضبا لأنها أهملتني. لكن الشقية لم تبالي ، و استمرت في التحدث بعفوية و كأن شيءا لم يكن . بدأت تحدثني كيف رأتني في محطة القطار ، و بدأت تصف لي ماذا كنت أحمل و ماذا ألبس ... و كيف شاهدتني بجانب مطعم المدرسة و في أي وضعية.... ذهلت حقا ، أوصافها هته تظهر على أنها كانت تطاردني ، و هنا تبادر الى ذهني اسم " المطاردة" ، فمنذ ذلك الحين و أنا أناديها بالمطاردة
مطاردتي كانت تنزعج من منشورات صديقاتي الأخريات في حائطي ، و لم تكن تكظم هذا الغيظ بل أبانت عنه في العديد من المناسبات. و كانت دائما ما تستفسرني عن طبيعة علاقتي مع الأخريات و لا تطمئن الا عندما أؤكد لها على أنها صداقة بريئة. و في اطار انزعاجها الدائم من نظيراتها من الجنس الناعم ، أتذكر على أني في أحد الأيام أخبرتها على أنني أصبحت على علاقة مع احدى الفتيات . و بقدرة قادر تحول كلامها من رقيق يبسط الأفئدة الى كلام جارح يكسر الخواطر. ثم قالت لي " حظ موفق ، سأختفي الأن من حياتك للأبد " ، طلبت منها شرحا عن فعلها هذا ، فأجابتني باستكبار " الأن تملك فتاة أحلامك فلا داعي الأن لوجودي " . بقدر ما كان ذهولي كبيرا ، بقدر ما كان ردي أكبر. عاتبتها كثيرا ، و شرحت على أن مكانتها ستظل في قلبي ، و اسمها سيظل في عقلي.
مهما سار الزمن. بعدها ساد صمت رهيب في فضائنا و كان لزاما علي أن أكسره ببضع كلمات تلطف الأجواء قليلا. و لم يكن أفضل من مصارحتها بأن حكاية ارتباطي باحداهن لم تكن سوى مزحة خفيفة تحولت الى مزحة ثقيلة بسبب مزاجها المتقلب. تنفست صديقتنا الصعداء أخيرا ، و طلبت مني على أن لا أعيد الكرة مرة أخرى. ـــــــــــــــــــــــ على غير عادتها بدأت صديقتي تمضي ساعات و ساعات أمام الشاشة الزرقاء، عرفتها خلالها على أبرز كتابات أحمد مطر . و طبعا حلقت بها عاليا في سماء تركيا ، ليس تلك التي تعرف أو التي تعرفون ... بل تركيا عزيز نيسين ، تركيا السبعينات و الثمانينات. و في كل ليلة كنت أتلو على مسامعها أحلى المقتطفات مما قرأت . هكذا كان الأدب شاهدا على ميلاد صداقة متينة يكتسيها كل الاحترام و الأدب و الغموض طبعا. مرت هته الأيام كالحلم بسرعة البرق، و سرعان ما استفقت على واقع أولى صدماتها ـ " عذرا يا وسيم ، في الأسبوع المقبل سيبدأ الموسم الدراسي ، و لن أتصل الا نادرا لأن حاسوبي غير شغال حاليا و لا أملك خدمة الانترنت في الهاتف ... " ـ " لا بأس ، حظ موفق ، سأكون بانتظار جديدك ، و طبعا سأكون مسرورا بمقابلتك في أحد الأيام ". ـ " سأراك قريبا ان شاء الله عندما تأتي الى الرباط " ـ " طيب في أمان الله " على ايقاع هته الكلمات اختفت مطاردتي مرة أخرى و عادت الى عادتها القديمة ، لا نتحدث سوى بضع دقائق في الأسبوع. هي تمضي يومها بين جدران الفصل الدراسي في النهار ، و أحضان كتبها في الليل . بينما أمضي يومي بين أمواج الانترنت و يابسة عزيز نيسين. و لكي أكسر هته الرتابة ، قررت الخروج مع ابن عمتي لأنتعش قليلا بنسمات البحر. أمضينا حوالي ساعة في انتظار الترامواي لكنه لم يأت " لعله القدر " ، أمضينا عدة دقائق في انتظار التاكسي لكن الجميع يرفض أن يقلنا " لعله القدر" . بعد معاناة طويلة مع المواصلات وصلنا أخيرا الى الكورنيش. سألني ابن عمتي أي اتجاه نسلك ؟ بعفوية قلت له فلنذهب يمينا " انه القدر كما سترون ". رغم برودة الطقس الا أننا فضلنا التهام كريات بوظة ، لا يه . المهم هو أننا انتعشنا و تخلصنا من ضغوط الحياة الكلاسيكية ، لكنني لم أتخلص من صورة صديقتي التي تطاردني دوما ، تلك الشقية التي فشلت في فك رموزها. ما ان وضعت يدي الباردتين على مفاتيح حاسوبي حتى انصهرتا ، فحرارة الرسالة التي تلقيتها كفيلة بحل أزمة المغرب الطاقية فما بالك بتسخين يدي هاتين. " وسيييييييم لقد رأيتك بالقرب من المقهى الفلاني ، لقد كنت ترتدي جينز أزرق، جاكيط بني أو لونه يميل الى الأخضر ، كنت تضع قبعة الجاكيط و تسير بسرعة لتنجو من قطرات المطر. كان أحدهم يرافقك ؟ أليس كذلك ؟ رأيييييييييتك واااااو . أسفة لأنني لم أحدثك مرة أخرى ، لقد كنت أرافق أختي و بينما هي تدفع ثمن المقهى وقعت عيني هاتين على صورتك و أنت تفر من أمامي ، ذهلت و لم أعرف ماذا أفعل و لم أسترجع وعيي الا و صورتك تختفي ..... سامحني أرجوك, المهم أنا سعيدة لأنني تعرفت على ملامحك جيدا و عن قرب " لا أتذكر ماذا كان ردي أنذاك، لأن هته الغامضة جعلتني أتراقص كالنواس ، تارة أسعد بمعرفتي اياها و تارة أحزن لأني أجهل اسمها و لا أعرف صورتها ..... لم أعرف في أي خانة أصنفها ، هل في صديقات الأدب، أم في مقرباتي أم ماذا ؟ فهي كالحرباء في كل يوم تظهر لي بلون مختلف ؟ و رغم كل هته الألوان فشلت في تصويرها
مرت بضع أيام ، و اختفت مطاردتي من جديد ، انتظرت قدومها لأيام و ليال ، أرسلت اليها بضع رسائل أستفسرها عن سر الغياب لكنني لم أتلق أي جواب. و بدوري انخرطت في لعبة الصمت و انقطعت عن الكلام. مرت أيام ان لم تكن أسابيع ،و بينما أنا في صالة ألعاب المدرسة مع صديقي " أنس " نلعب البياردو ، رن هاتفي ـ" وسيم هاتفك يرن " ـ" من المتصل ؟ " ـ" المتصل مجهول لا يظهر الرقم " ـ" أوووووف ، دعه يرن فلنكمل اللعبة ، لا أحب الاجابة على الاتصالات المجهولة" ـ" كلا أجب يا صديقي ، قد يكون الأمر عاجلا " ابتعدت قليلا عن الصالة لكي أتمكن من سماع صوت المتصل و أجبت ـ" ألو ، السلام عليكم من معي ؟ " ـ" ألم تعرفني ؟ توقع من معك " صوت ملائكي يخترق أذنيي ، اوه هل تكون هي ؟ هل هي مطاردتي ؟ هل ستطاردني عبر اللاسلكي أيضا ؟ توقعت على أن تكون هي لكن ردي كان كالتالي ـ " صعب التعرف "
ـ " هياااا ، فزر من أنا ؟ " ـ لا أعرف أسف " ـ " أنا هي ANONYME أتذكرني ؟ " ارتفعت دقات قلبي ، و شعرت بالارتباك ، انها حقا هي ، انها لا زالت تتذكرني الحمد لله. ـ " بصراحة توقعت على أن تكوني أنت يا MISS ANONYME ، كيف أناديك و أنا لا أعرف اسمك حتى ؟ " ـ " ANONYME اسم جميل ، ناديني هكذا. أوه دعني أعتذر عن غيابي الغير مبرر مؤخرا ، لقد كنت مشغولة جدا ، و لم أجد وقتا للاتصال ، أسفة جدا " ـ " لا بأس ، الحمد لله لأنك بألف خير ، يوم كبير هذا الذي شرفتنا بصوتك و بمعرفتك " ـ " عادة لا أعطي رقمي للشباب و لا أتصل بهم ، لكن بما أنني أمضيت وقتا دون اخبارك بجديدي ، تشجعت و اتصلت بك " ـ " أه ، شكرا ، عظيم ، NICE " بعدها تحدثنا عن الأحوال الدراسية قليلا ثم طلبت مني بلباقة الانسحاب من المكالمة لأن لديها شغل لتعمله ، و بأدب مماثل ودعتها و شكرتها كثيرا على مبادرتها الطيبة لتفقد أحوالي. اعتادت بعدها صديقتي على الاتصال بي برقم هاتفي مجهول لتتفقد أحوالي و تطمئن علي ، الى أن جاء الخميس الأسود. ففي هذا اليوم ، كنت في حصة اللغة الفرنسية و تلقيت عدة اتصالات مجهولة ـ كنت أعلم على أنها مطاردتي ـ و كنت أقطع الاتصال لأنني في الفصل ، و عندما خرجت من الفصل تلقيت في البداية اتصالا من رقم معروف ـ لم تحجب الاتصال هته المرة ـ تحدثنا قليلا ثم انسحبت . بعدها سجلت رقمها الذي منحتني اياه عبر الخطأ ، لعله يفيدني عندما تغيب. و بالفعل اختفت صديقتنا مرة أخرى ، و بدأت تكتفي ببضع رسائل من زمن لأخر. و في احدى المرات القليلة التي وجدتها على الفايسبوك سألتني ان كنت سأشارك في سفر سينظم الى تركيا في أبريل المقبل. كان ردي مبهما ، " ان شاء الله ، اذا توفرت الظروف المادية سأكون حاضرا " ، لكن في داخلي كنت مسرورا جدا و كنت متحمسا للمشاركة في هته المغامرة التي ستجعلنيأضرب عدة عصافير بحجر واحد ، ملاقاة مطاردتي السرية ، زيارة بلاد العم اتا ترك و التعرف على حضارة عزيز نيسين عن قرب. لكن مع الأسف لم تكتمل الفرحة ، فأيام قليلة بعد هذا الحديث ، اختفت مطاردتي عن الأنظار ، و هته المرة لم يدم غيابها أياما أو أسابيع بل تعداه الى ما أكثر من ذلك . ركبت رقمها و اتصلت بصفتي مجهول ، كانت ترفع السماعة لكنها لا تجيب ، أعدت التجربة مرارا و تكرارا لكن دون جدوى. بعدها قامت بحذف فايسبوكها ، ظللت أنتظر قدومها ، أو اتصالها لكن شيئا من هذا لم يكن. شعرت باليأس ، لن تعود أبدا ، كما غابت سابقاتها ستغيب ، لكن أي صورة سأترك لها ؟ هل أفعالها الجيدة اتجاهي ؟ هل محاولاتها الكثيرة لكسر ذرات يأسي ؟ أم لحظات غيابها التي خلقت بأسي ؟ ... فكرت جليا ، و انتظرت الوقت المناسب ، فعند حلول السنة الجديدة ، أرسلت اليها الرسالة التالية " السلام عليكم ، سأكون صادقا و أتمنى أن أتلقى الاجابة الصادقة من قبلك أنت أيضا ، أعلم على أنك " ندى " مطاردتي عبر الفايسبوك و على أنك أنت من كنت تتصلين بي بالرقم المجهول ، أريد أن أعلم سبب غيابك ... ؟ سنة سعبدة " مرت بضع ساعات و تلقيت الرد التالي " و عليكم السلام ، أظن على أنك مخطئ في الرقم، لم يسبق لي الاتصال بك " أعلم جيدا على أنني لست مخطئا في الرقم ، بل هي المخطئة في هذا الفعل ، و هكذا تلقيت أخر كلمات من مطاردة فرت مني عندما طاردتها . هكذا انتهت قصة فتاة التقيتها بغرابة و انسحبت من لائحتي بغرابة. بقي عندي بصيص أمل في ملاقاتها في أحد الأيام ، هذا الأمل ليس للتعرف عليها كما في السابق ، بل أردت فقط معرفة من هي صاحبة هذا الظل ، أردت شكرها عن لحظاتها الجميلة التي قضتها معي ، أردت أن أودعها للأبد.
كنت أتوقع أن ألتقي بها في سفري الى تركيا ، لكن القدر لا يريد ذلك ، فبعد أن تسجلت في ذلك السفر و عزمت الرحيل ، تلقيت رسالة هاتفية ، " نتأسف كثيرا ، لقد تم الغاء السفر الى تركيا ، سنرجع اليكم مبلغكم لاحقا " هكذا فرقنا القدر ، التقينا بضغطة زر كانت هي صاحبته ، و تفارقنا بضغطة زر هي صاحبته كذلك. ظهرت بدون سبب و اختفت بدون السبب ، فمن سيعرف السبب يا ترى ؟ الله و هي أعلم تحية طيبة يا صاحبة الظل الطويل Nice to meet you :)