كل شيء هجره ، الا الحزن أبى أن يفارقه... سلك كل الطرق ، لكنه لم يصادف طريق السعادة . بعد أخذ و رد ، انعرج أخيرا الى المسلك المؤدي الى الشاطئ. بخطى متثاقلة يتقدم ليعانق نسيم المحيط كما يدنو الرضيع للارتماء في حضن أمه. كان يتنفس بصعوبة بالغة ، ظننته في البداية مصابا بالربو ، لكن ظني خاب ، فبعد لحظات أحسست بمعاناته و ذكرياته محملة في كل زفير يطرحه.
وصل أخيرا الى البحر ، فانفتحت عيناه على مصراعيها لترتمي في المحيط الشاسع. زرقة الماء أنسته سواد الحياة ، و حركة الأمواج اللطيفة أذهبت سكونه السرمدي و أخفت التجاعيد التي رسمها الزمن على محياه. بعد هذا السلام الحار مع أنيسه ، و رفيقه الوحيد ، أخذ له مكان بين حبات الرمل، و بدون مقدمات و لا مقبلات خاطب رفيقه :
ـ يا بحر ، أصدقائي يتساقطون كأوراق الخريف و أنا لازلت في ربيع عمري. ما ان يجد أحدهم رفيقه أو رفيقته الأبدية حتى يحمل حقائبه و يرحل في صمت ، دون النبس ببنت الشفة . ألا أستحق كلمات شكر على أقل تقدير لما قدمته ؟ أمن العار أن يتصدقوا بكلمة طيبة على فؤاد طيب خاطرهم لشهور و سنوات ؟ كيف لرسائلهم أن تنسى أو تتناسي عنواني ؟ ...
انقطعت كلماته ، و جفت عيون تعابيره . التزم الصمت مخاطبا البحر بأنبل الفنون ، فن الصمت و لغة العيون. بادله البحر نفس الشعور ، شعور الألم و الحسرة ، فبدأت موجاته في الانكسار كما انكسرت روح الفتى. منظر ولد من رحم البؤس ، نوبات بكاء ، و عيون دموع تتدفق من عيون الفتى ذات اليمين ، و أمواج ممزوجة بمشاعر الأسى تتلاطم و تتلخبط ذات الشمال. ببساطة، لا لغة تعلو فوق لغة الوحشة هناك.
يئس الفتى من يأسه ، و استشاط غضبا مخاطبا البحر مرة أخرى
ـ يا بحر ، سئمت الصمت ، فالى متى سأصمت ؟ من يسمع شكواي و أنيني ؟ مللت من دور الكومبارس ، أناجي الناس عندما يريدون و أعاني عندما يرحلون. يا بحر، لم تعد لي القدرة على شيء، فؤادي سيعتزل الألفة ، لقد عانى ما فيه كفاية و لم يعد يتحمل أذاهم. أريد أن أستمتع بوحدتي لا أريد أن يشاركني فيها أحد بعد الأن. خير لي أن أمضي يومي بين الروايات و المنتديات على أن أرتمي في شباك البشر .... يا بحر ، يا بحر ماذا أفعل رجاءا :) ؟ يا بحر خذ فؤادي ، خذ أحاسيسي و أدفنها في أعماقك ، خذهما للأبد يا صديقي ما عدت بحاجة اليهما ، أو من الأفضل خذني معك أنا أيضا ....
على ايقاع الأشجان ، استلقى الفتى على الشاطئ، و أغمض عينيه متمنيا أن لا يفتحهما الا و هو في حال أحسن من واقعه الأليم ... فمن يدري في أحد الأيام سترسم بسمته من جديد