وأنا جالس على كرسي فاخر جلوس السلاطين تذكرت فقراء قريتي فجأة وتساءلت من أين يقتاتون
في هذا الشهر الفضيل، تذكرت أنه شهر تضاعف فيه الحسنــــــات وتعتق فيه الرقاب من النــــــار،
فقررت أن أقوم بإطعام كل فقير ومسكين ومحتاج في القرية..
استشرت زوجاتي في الأمر فسررن بذلك إلا دنيا الصغيرة التي قالت:
[size=24]-[size=24]أخشى عليك الفقر إن أسرفت في هذه الصدقات، في القرية فقراء كثر، ألم تر ذلك الطابور الطويل[/size][/size]
عند باب دار البلدية حينما توزع قفة رمضان؟؟؟
-نعم رأيت ذلك، حتى رئيس البلدية كان في الطابور، ورأيت أيضا صهري أبا دنيا أباك صاحب معمل
الإسمنت هناك أيضا... اسكتي من فضلك ودعينا من مخاوفك هذه..
أغضبتني زوجتي دنيا بجد هذه المرة، صدرها مرصع بالذهب والألماس، تلبس من الثياب أفخرهـــــا،
أظن أن ما سأنفقه على فقراء قريتي لا يساوي نصف ما أنفقته ليلة زواجي بها..
هذا ما كان يدور في ذهني وأنا أرمقها بغضب..
أظن أنني استغللت ضعف شيطاني في الشهر الفضيل لأجيبها بهذه الطريقة.. لأنني في غير رمضان لا
أعتبر إلا خاتما في أصبعها الوسطى..
شكلت فريق عمل مع بعض شباب قريتي الذين تحمسوا للفكرة وقرروا التطوع بدون أي مقابل مساهمة
منهم في خدمة إفطار الصائمين.. سيارات نفعية توزع الأغذية على بيوت الفقراء وخيمة كبيرة تشكــــل
مطعما لعابري السبيل وأي راغب بالإفطار فيها...
أيام حلوة وسعادة غامرة عشتها لأول مرة في حياتي، أحسست أنني كنت ميتا من قبل، آه لو يعلم الأثرياء
ما في خدمة الفقراء والمساكين من سعادة لتجادلوا عليها بالسيوف..
اشتهر عملنا الخيري وذاع صيتنا بين كل رائح وغاد، وكان دعائي اللهم اجعله خالصا لوجهك الكريم...
انقضى نصف الشهر الفضيل، ونحن في قمة عطائنا... وبينما كنت أراجع قائمة بأسماء فقراء جدد إذ دخل
علي أحد الشباب المتطوعين معي وكنا نلقبه بأبي مصعب...
-يا الحاج الربيع.. يا الحاج الربيع..
بلعت ريقا خشنا وأنا أنظر نظر المغشي عليه من الموت إلى وجهه المسود كأنما أغشي قطعا من الليل مظلما
كنت أنتظر أن يخبرني بأن حريقا شب في الخيمة، أو أن تسمما أصاب العائلات الفقيرة التي نشرف على إطعامها...
-يا الحاج الربيع كارثة أصابتنا..
لم أستطع الكلام ولا الحركة.. ولم أتلفظ إلا بكلمة واحدة:
-خير..
فقال وأنفاسه تتقطع:
-لقد فتح أحدهم خيمة مثل خيمتنا لإطعام المساكين والفقراء وتوزيع المواد الغذائية مجانا على أهل القرية..
-أهذا فقط؟ لقد أفزعتني ظننت أن .. لا يهمني الأمر..هيا عد إلى عملك مع الشباب..
لا أعلم إن كنت حقا لم أهتم بهذا الأمر، أم أنني حاولت إخفاء اهتمامي حتى عن نفسي..
خرج الشاب من الباب وقد فتح بابا في تفكيري حول هذا المجهول الذي سرق فكرتي..
باب حاولت أن أسده بالاستغفار والدعاء والانشغال بقائمة الأسماء التي في يدي..
-شيء جميل أن نتنافس الخير.. لكن.. لكن بدون لكن..
هكذا ظلت المواقف تتضارب ضالة طريقها في رأسي مدة ثلاث أيــام...
بدأت أتحقق من بعيد أمر هذا المجهول الذي تبين لي أنه طبيب مغترب يعمل في فرنسا ولا يأتي إلى
هذه القرية التي هي مسقط رأسه إلا في رمضان...
لكن المحيّر في الأمر هو ما الذي يجعله يقوم بتقليدي هكذا؟ ماذا يريد من وراء عمله هذا؟
ثلاثة أيام من العذاب نهار الصيام تحقيق حول هذا الطبيب، وقيام الليل شرود في تساؤلات حوله،
أحسست أن ليس مني في رمضان وشعائره إلا جسد ليس فيه روح ولا قلب...
ثلاثة أيام جعلت الطبيب صاحب المآرب المجهولة يأخذ كل اهتمامي، خاصة وقد تخلى عني بعض
الشباب والتحقوا به...
ودخل عليّ أبو مصعب في التاسع عشر من رمضان ووجهه قد ازداد سوادا..
-لقد التحق نصف فريقنا بهذا الطبيب العميل، الخونة...
لم أستطع كبح غضبي وضربت يدي على الطاولة منتفضا:
-أبناء العاهرات، -تحلبوا- وصاروا يعرفون أين يفعلون الخير...
-لا تقلق يا الحاج الربيع، هذه العشر الأواخر سنقوم الليل وندعو عليهم وعلى هذا العميل المتآمر
على استقرار هذه القرية وعلى الدين.
-اسمع زيدوا في عمل الخير، ضاعفوا الكمية الممنوحة للفقراء، اقصدوا كل بيت في القرية واسألوا
حاجاته وسدوها.. سنرى من الأقوى أيها الطبيب المتحاذق..
بدا السرور على أبي مصعب لكنه سكت برهة وتساءل:
-لكن الطبيب أيضا قد يفعل ذلك، وقد لا يفرق الناس بين قوافلنا وقوافله..
-صحيح.. أنت محق، لنجعل لنا اسما وشعارا، اجعلوه على السيارات وعلى الملابس، وعلى أكياس
الطعام... هيا بسرعة..
-حاضر يا الحاج الربيع.. الله أكبر.. الله أكبر..
وخرج أبو مصعب فرحا من عندي..
تضاعف العمل وزاد الجهد، وأخيرا وصلنا إلى كل منزل في القرية وامتلأت سجلاتنا بأسماء الفقراء
والمساكين...
ركبت سيارة من سيارتي لا يعرفها أهل القرية وانطلقت بها متواريا خلف زجاجها المعتم ناحية خيمة
الطبيب العميل... لأرى ملامح الحسرة على وجهه، لأتأكد من هجران الناس له واكتشافه نفاقه ورياءه...
تفاجأت بطابور الفقراء والمساكين أمام خيمته، إنها نفس الوجوه التي كانت تصطف قبل قليل أمام باب
خيمتي، سيارات نفعية وشاحنات كانت تنطلق من خيمته ناحية منازل الفقراء في القرية، تبعتها خفية،
فكانت تقصد نفس المنازل التي قمنا بالتوزيع عليها نحن بالأمس..
حتى هو ضاعف مجهوده في فعل الخير رياء ونفاقا، بل كتب اسما وشعارا على السيارات وعلى ألبسة
المتطوعين وعلى أكياس الغذاء..
-اللعنة.. اللعنة.. هل تريدها حربا أيها القذر؟ هل تريد أن ترى مني وجهي الشرير؟ سأدمرك أيها الدخيل
أيها المنافق العميل، يا صاحب المآرب الأخرى...
وأنا عائد بسيارتي إلى خيمتي وفي منتصف الطريق عند مفترق طرق، وعند الإشارات الضوئية حيث أوقفني
الضوء الأحمر انتبهت إلى سيارتي تقابلني، كأنها عائدة من المكان الذي أنا عائد إليه، كانت غريبة معتمـــة
الزجاج مثل سيارتي.. ومن يدري من يتوارى خلف ذلك الزجاج، قد يكون شخصا مثلي..
العشر الأواخر حيث تعتق الرقاب من النار أشعلت فيها نار الحرب بيني وبين الطبيب العميل واشتدت المعارك،
لدرجة أنني حاولت تسميم طعامه ليهلك بعض المساكين وتلتصق التهمة به، كما أنني بالغت في الحــــــــــــذر
والحراسة خشية أن يفكر بتسميم غذائي مثلما أفكر في تسميم غذائه، استغللت النفوذ وقدمت الرشى وألقيت
التهم وبعثت الرسائل المجهولة لأقوم بإغلاق خيمته.. كما أنني قمت بالاستطلاع والبحث مع المسؤولين خشية
أن يقوم ضدي بما قمت به أنا ضده... معارك خفية طاحنة...
كل شيء صار منطقيا وعاديا في حربنا، حتى المساكين الملعونين الذين يأكلون من هنا ومن هنا، الذين لا يقنعون
فيأخذون من هذا ومن هذا أكثر مما يحتاجون يستحقون أن أقوم بالتضحية بهم من أجل دحر هذا العميل المعتدي..
السادس والعشرون من رمضان، بلغنا ليلة القدر ولم أقم ولا ليلة من هذه الليالي الأخيرة المباركة، ولم أشعر
بالصيام، الله غالب، فأنا في جهاد ضد الخونة والعملاء المندسين الذين لهم مآرب أخرى خطيرة...
وهذا العمل الواجب يعود بالمنفعة على الناس في القرية وهو من المصالح العامة، أما صلاة قيام الليل فلا يعود
بالمنفعة إلا عليّ، وبالتالي يجب تقديم مصالح القرية على مصالحي الشخصية وعلى عباداتي الفردية...
عند الزوال وعند اشتداد الحر حيث يركن الناس ويسكنون وتهدأ الحركة.. خرجت في سيارتي المعتمة إلى بلدة
مجاورة لقريتنا فتفاجأت بعدد تجار الجملة للمواد الغذائية الذين افتتحوا متاجر تبيع بأسعار زهيدة، اقتربت
وتأملت الوجوه، بعضهم من فقراء قريتي..
-اللعنة.. اللعنة..
كنت أستشيط غضبا وألعن كل شيء في هذا الحياة، حتى وصلت الشاحنة التابعة لدار بلديتنا محملة
بأكياس المواد الغذائية.. سارت ببطئ حتى توقفت عند أكبر محل تجاري هناك.. نزل السائق الذي
عرفته مباشرة، إنه رئيس بلديتنا الذي انتخبناه... وخرج لاستقباله صاحب المحل الذي لم يكن إلا
صهري أبو دنيا..
-أبناء العاهرات.. الخونة.. لا الشعب الفقير يستحق ولا المير ولا الأقارب، إنهم يعيدون بيع صدقاتنا،
يتاجرون في إحساننا، لقد أوصلتني إلى نهاية الطريق أيها الطبيب، يا عميل الغرب المتآمر..
لم أستطع تناول الإفطار تلك الليلة، بقيت على جوعي أنتظر وأفكر في فتح أبواب الجحيم في هذه الليلة
المباركة على أعداء الخير وأعداء الأمة...
اتجهت إلى أبي مصعب الشاب صاحب الوجه المسود... ناديته من منزله، فخرج بعد ما يقارب الربع
ساعة مرت عليّ كأنها جمر زاد في غضبي...
-خيرا يا حاج ربيع؟؟
-لا خير يا أبا مصعب...
وأخبرته بما رأيت وأعطيته تحاليل بافتراضات لأحداث تدور في الكواليس خلف ظهورنا..
بكى بحرقة وهو الفقير المرهق من الآفات الغارق في الملل..
-لقد تأخرت لأنني كنت رافعا يدي إلى السماء أدعوا الله على هذا الطبيب اللعين الذي دمر قريتنا...
ماذا سنفعل الآن؟ أرى أن القرية غرقت في الفوضى وان الطبيب حقق مآربه فينا...
أخذت نفسا عميقا ثم قلت:
-لا أعلم، أفكر في القضاء عليه وفي حرق خيمته بما فيها وبمن فيها..
هز أبو مصعب رأسه كأنه فهم ما أريد ثم قال:
-سأفجر نفسي هناك يا الحاج ربيع، وسأحتسب الأجر عند الله.. وهذه الليلة إن أردت أنا مستعد لترتقي
روحي بل لا أجد مثل ليلة القدر لذلك..
-هل أنت متأكد أنك تستطيع أن تفعل هذا من أجل الخير والحق...
أحكم أبو مصعب قبضتيه ثم قال مبديا عزما وبأسا:
-أستطيع ذلك، لطالما حدثت نفسي به، بل لطالما تمنيته.. سأنطلق الآن إلى اللقاء يا حاج ربيع سنلتقي
في الجنة... كن مطمئنا، عد إلى خيمتنا خيمة الحق، وترقب دوي الانفجار من خيمة العدو...
وانطلق أبو مصعب وعدت إلى خيمتي وأنا أفكر في نفسي وفي الخطوات التي بذلتها لأجمع ثروتي،
تذكرت فجأة أنني كنت طبيبا مغتربا أعيش في الخارج ولا أعود إلى أرض الوطن وإلى القرية إلا في
شهر رمضان، قبل أن أستقر نهائيا في القرية منذ 5 سنوات..
-أنا طبيب، أنا ذلك الطبيب اللعين الذي يتآمر على استقرار القرية، لكنه هناك في خيمته مع أكياس
غذائه ينتظر أن يفجر أبو مصعب نفسه فيها...
-لكن قام بكل ما قمت به، هل نحن شخص واحد، هل هو أنا، هل كنت أنظر إلى نفسي في مرآة كبيرة،
اللعنة، لست متأكدا مما يحدث معي، أكاد أجن، ماذا لو كنا شخصا واحدا، وكانت هناك خيمة واحدة..
-اللعنة، أبو مصعب قادم إلى هنا، سيفجرني...
انطلقت مسرعا أريد اللحاق بأبي مصعب ففوجئت به يقتحم الباب يجري بأقصى سرعة..
وفجأة صوت دوي لم يكتمل، نيران كثيرة.. وإحساس بأن الأوان فات والفرص انتهت ويلوح في
الصدر أمنية بأن يكون هذا مجرد حلم...
-ربيع.. ربيع.. ما بك، استغفر الله واستعذ بالله من الشيطان الرجيم..
كنت أتخبط في فراشي بجانب زوجتي خالدة..
-أبو مصعب، الخيمة، الطبيب... الله.. الله.. أستغفر الله، اعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن شر ما رأيت..
استفقت أخيرا من نومي على وجه خالدة البادي في بهاء البدر تبتسم لي ثم قالت:
-ماذا رأيت حتى فزعت بهذه الطريقة؟؟
-لا شيء، إنها فكرة إطعام المساكين تحولت إلى كابوس مزعج..
ضحكت خالدة ثم قالت:
-ما رأيك أن نخرج هذه الليلة في سيارتك المعتمة ونغطي وجوهنا ونقوم بتوزيع المال على بعض
المحتاجين في قريتنا دون أن يعرفنا أحد...
ضحكت بأعلى صوتي وقد تهلل وجهي سعادة ثم قلت:
-بوركت أيها الزوجة الصالحة، سنفعل ذلك ولكن بعدما نستحم..
وارتميت في حضنها تاركا أبا مصعب ورئيس البلدية وصهري المفترض أبو دنيا..